وعلى الدنيا السلام
تأليف : حريز مريم
مررت ذات يوم بجوار محكمة فحدثتني نفسي أن أعرج عليها لأني ما دخلت قط قبل اليوم إليها ولا حتى جاوزت عتباتها
فدخلت ومررت بجوار قاعات كثر ، فوق أبوابها لوحات كتب عليها جمل حيث يعرف من خلاها الغرض الذي ينجز فيها ،
فقرأت واحدة فإذا هو مكتوب عليها غرفة المحاكمة والنظر في القضايا ، فقلت أدخلها ويفعل الله ما يشاء جلست على
مقعد من تلك المقاعد المصفوفة مع الحاضرين والشهود لسماع المحاكمة ، جلسنا هنيهة حتى فتح الباب المقابل وخرج
رجال كثر يلبسون لباسا أسودا واسعا موشحا بالأحمر في جوانبه ، كان بينهم القاضي الذي جلس على كرسي أطول
ليظهر للعيان وطرق بالمطرقة كإعلان عن البدء بالنظر في القضايا والحكم والقصاص ، سمعت جلبة من الخلف فالتفت ،
فإذا رجل في عمر الأربعين ، يلبس لباس السجناء وكان في ذاك الزمان أزرق اللون ، مكبلا بالقيود وعلى جانبيه شرطيان
يقتادانه إلى حبس بجانب الغرفة ليسأل ويقر بذنبه ، أجلسوه وأغلقوا عليه باب الحبس ثم عادوا .
وطرق القاضي الطرقة الثانية وقال : ليتقدم الشاهد الأول فأقبلت من وسط المجموع شابة يبدو للناظر للوهلة الأولى
أنها قبيحة الوجه ، حتى إذا ما أمعن النظر فيها رأى جمالا توارى خلف سحب النكداء والحزن ومرارة الألم ، سلمت على
القاضي ثم أردفت تحكي قصتها مع ذاك المجرم. فقالت : أيها الحاكم العادل ، إن هذا المجرم زوج أختي في السابق
و طليقها وقاتلها اليوم ، هو إنسان كثير الظن ، مرتاب في كل شيء ، هو إنسان ظالم حقود بخيل ، وبالمقابل كانت أختي
أحسن النساء خلقا وأكثرهن حياء وعفة ، حلوة اللسان صبورة ، كان يحاسبها على الكبير والصغير ، ويضربها في كل الأحايين ،
وهي بالرغم من هذا الجحيم ، تظل صامتة صابرة ، لا تحدث أحدا بما يحصل لها ، حتى إني ذهبت إليها ذات يوم ، وبينما كانت هي
في المطبخ وأنا في الغرفة المجاورة ، إذ دخل وجلس في الصالة ، فجاءته بالغداء ، فأكل منه قليلا ثم صرخ صرخة هائلة ، وانهال
عليها ضربا ، والسبب التافه يا سيدي القاضي ، أنها نسيت وضع الملح في الطعام ، والطرفة الأخيرة أنه طلقها في تلك الساعة .
يالسخرية القدر ، وعدت بالمسكينة إلى بيتنا في حالة يرثى لها ، لا ترى في جسمها عضوا إلا وهو مصاب بخدش أو قرح ، وكان
يسكن بجوارنا شاب هو كأخ لنا بل وهو أخونا بالرضاعة وكان إذا رأى أختي حزينة كئيبة جلس معها وآنسها ، ثم يخرجان معا ليروح
عنها ، وكان ذات يوم أن شاهدها هذا المجرم مع جارنا فاعترضها وأخبرها بعزمه على ردها ، لتعود زوجة له لكنها أبت ، فارتاب الجاهل
لشيء لا أصل له ولا مكان ، وعاودها مرات عديدة ، و لا يظفر منها بغير الرفض ، ولتعلم سيدي القاضي أن الرفض لم يكن منها
فحسب بل منا جميعا ، وزاد شكه وعلا غضبه حتى صار كالمجنون ، يدفع الباب بالقوة ويدخل علينا فيشتمنا ويسبنا ثم يذهب
إليها ويضربها ضربا مبرحا ، ولم يكن بيدنا حل لإسكات أنفاسه أبدا ، وذات يوم دخل كعادته وكان يحمل مسدسا في يده
فهددها إن لم ترجع عن رأيها قتلها ، فعاندته واحتمت بأبي ، وبكل برودة دم اتجه نحوها وصوب المسدس نحو رأسها وأطلق النار ،
فوقعت أختي ميتة ، وقفنا مذهولين فلم نستطع أن نصرخ أو نستنجد أبدا ، فتقدم أبي نحو الباب يريد أن يصرخ في الناس ليساعدونا
فأطلق عليه النار هو أيضا فقتله وكذلك فعل بأخي الصغير ، أما أنا فأصابني في كتفي ، و تظاهرت بالموت ، وها أنا اليوم بين يديك
فاحكم بيننا وإني أطالب بحقي وذلك أن يعذب ثم يقتل ليعرف قدر الجرم الذي ارتكبه ، فطرق القاضي الطرقة الثالثة وقال : ليتقدم
الشاهد الثاني والثالث وها كذا أدلى كل واحد منهما بشهادته وأقر المجرم بجريمته ، وحكم عليه بالإعدام رميا بالرصاص ، وهكذا
انتهت القضية الأولى وطرق القاضي الطرقة الخامسة كإعلان عن البدء في القضية الثانية .