مشيئة القدر
تأليف : حريز مريم
لم ينزل من السماء كما تنزل الملائكة رحمة وروحا على الأرض ، ولم يخرج من الأرض كما ينبت الورد الفواح ،ولم يحمله إلينا السحاب ،ولا أرسله إلينا نجم من النجوم ، وإنما نشأ بقرية في أسرة متوسطة الحال ، ليست بالفقيرة ولا بالغنية ؛ إنه عليّ امتاز عن غيره بوضاءة وجهه ، يتقن إذا عمل، بارع وفطن إذا تكلم ،يمتاز بقليل من الصرامة والخشونة في الأمور الواقعية "لاإفراط ولا تفريط " ، وبالرغم من ذلك فهو حنون ولطيف .
وقد حكم عليه الزمان أن يتزوج بابنة خالته نورة ، وكذلك كانت التقاليد في ذلك الوقت أي أجبر على الزواج منها "يختار له ولا يختار" . كانت أيامهما تسوء يوما بعد يوم لأن نورة متسلطة سليطة اللسان، لايمضي شيئ إلاّ بأمرها ولا ينقضي إلاّ بمشورتها ، تأمر وتنهي في كل الأوقات ، وبكل وضوح صارت لا تُحتمل أبدا ،وخلال تلك السنوات أنجبت له ولدين ، خالد ويوسف ؛ صبر عليّ وصبر ، حتى ملّ الصبر ، فصار بيته مملكة أروستوقراطية مليئا بالعنصرية ، وما عاد يحتمل البيت وأهله ، فشاور أصدقاءه وأرباب الحكمة والمشورة فنصحوه بالزواج من فاطمة الأرملة التي تعيش وحيدة في منزلها دون مؤنس أو أنيس . هي امرأة عاقلة راشدة تزن الكلام قبل أن يخرج من فيها، وتحسب الخطوات قبل أن تتقدم ، فكّرت في الأمر ثم وافقت أخيرا. وزُفت العروس الجديدة إلى منزل العريس حيث تسكن زوجته الأولى نورة وإنّما في الطابق الثاني ؛ سعد بها عليّ حيث وجد لديها الهدوء والراحة والطمأنينة . وبدأت الغيرة تدبّ في قلب نورة ، فعليّ كرهها ،لا يكثر الكلام ولا الجلوس معها ، إنّما ينزل من أجل أطفاله ، وصارت تدبر للتخلص منها ، تلفق الكلام وتراقب خطواتها ، تصرخ عليها ، تأمرها بالعمل المجهد ، ولاتعطيها إلا النّزر القليل من الطعام ، ثم إذا عاندت أو رفضت لها مطلبا تهددها بإسقاط الجنين من بطنها .
حينما يرجع عليّ من العمل ، يرى فاطمة تعبة مرهقة ، تبكي وتنتحب ، فيسألها عن حالها وسبب ذلك فلا تجيب ، ثم ينزل إلى نورة ليسألها عما حدث فتكذب عليه وتلفق الأباطيل . وبعد مرور الأيام والشهور ، ومع استمرار المعاناة ، وضعت فاطمة ولدها توفيق ، وأمرته بالصبر منذ أن فتح عينيه للدنيا ، وعرّفته بمعنى الأسى والشقاء والتعاسة ومرارة الأيام ، ويأتي ذلك اليوم الذي أجبرت فيه نورة فاطمة بالعمل فردت عليها فاطمة بأنها تعبة لأن ولدها لم ينم الليلة الماضية وباتت ساهرة معه ، فردت عليها بالضرب والشتم ، فكسرت سِنّها وشقت ثوبها ولوّت كاحلها ، وصارت في حالة يُرثى لها، نهضت متثاقلة الخطى إلى غرفتها حملت ولدها، ضمّته وقبّلته، ثم أخذت قارورة تحتوي على مادة كيميائية سامة ، فتحتها ببطئ وراحة بال وتجرعت منها ، وفي بضع ثوان سقطت سقطة لم تحرّك فيها ساكنا ، نعم رحلت فاطمة إلى ربّها تاركة البيت بما حمل واحتوى لنورة تفعل به ماتشاء، عندما عاد عليّ إلى البيت ، دخل الغرفة فتفاجأ بجثة فاطمة والقارورة بيدها- إنا لله وإنا إليه راجعون- ذهب الأنيس الذي كان يُؤنسه وذهب مُواسيه في الحياة اللئيمة ، ولم يُعمّر بعدها كثيرا حتى مات وهومصاب بمرض خبيث عجزأطباء ذلك الزمان عن إيجاد حلّ له ، وتربّى توفيق يتيما عند عمّته ، أما نورة فصارت المتحكم الأصلي في البيت ، وخلت لها الدنيا من المنافسين ،فربّت ولديها كما شاءت وكيفما شاءت ، أما المال فلقد كان عليّ يملك الكثير من الأراضي والمحلاّت ، وحتى هي ورثت عن أبيها الكثير من النخيل والأراضي ، فعاش الولدان دون أن يحتاجا إلى شيئ فالمال موفر وكلّ ما يطلبانه موجود ؛ كبر يوسف ووصل إلى سن الزّواج كان يرغب في فتاة جميلة كطموح كل الفتيان ، كريمة الأخلاق تفهمه وتُقدّره ، لكن سطوة الأم تدخّلت حتى في رغباته الشخصية ومصير حياته ، فخطبت له واحدة من الأشراف أي ذات مال وحسب ونسب ، إنّها وردة ، حقيقة لم يكن هو راغبا فيها فهو مُجبر على القبول ، بنى منزلا واسعا جميلا ، وأثمر زواجهما بولد وبنت - أسامة وسُهى - ، كانت علاقة يوسف بوردة غير مستقرة نوعا ما ، لأن هذه الأخيرة تُعاني من اضطراب نفسي يجعل تصرّفاتها تشبه المختلين عقليا .
وبعد مرور الأيام والسّنوات أفلست الشركة التي يعمل بها يوسف فاضطر إلى بيع منزله والإنتقال إلى بيت أمّه . اعتادت نورة العيش منفردة بلا رقيب ولا حسيب ، تأمر فتّطاع وفجأة صارت تعيش مع أفراد آخرين ، أولاد وضجيج ، لم تحتمل ذلك أبدا وبدأت في خلق المشاكل التى ليس لها معنى، تّحاسب على الصّغير والكبير ، تتبع خطوات وردة أينما ذهبت وأينما حلّت ، وتمنعُها من الخروج وتُحرّم عليها ماتشاء وتُحل ماتشاء ؛ ازداد توتر وردة وصارت مجنونة لاتصلح لشيئ ،ورُدّت إلى أهلها . أما خالد الإبن الأصغر فقد تزوج وأنجب بنتا سمّوها بُثينة ، وأخذ كلّ احتياطاته لعدم تكرار الأحداث ، فبنى منزلا بعيدا عنها ، ولا يسمح بالتقاء أمه وزوجته إلاّ ناذرا . وكذلك تزوج توفيق وأنجب بنتا سمّوها أسماء ، وعزم على الهجرة والعمل خارج البلاد لتحسين ظروف العيش ، فهاجر في يوم من الأيام الغابرة ولم يعُد بعدها أبدا ، وتضاربت الأخبار على أنّه قد غرق في البحر حينما حدثت عاصفة هوجاء وانقلبت السفينة التى تحملهم ولم يُعثر على جُثته .
وكبر الأحفاد ترعاهم الطفولة وتحيط بهم الأحلام وتُرفرف حولهم عصافير السعادة وتعطف عليهم الأيام ؛ وقررت العائلة بمشاركة الجدّة نورة على أن تكون بثينة لأسامة بعد سنتين أو ثلاث ، وهكذا قويت الصّلة بين الشابين مع أمل الإرتباط الشرعي وبناء عُشهما الجديد كعصفورين جميلين .
مضت الشهور والسّنوات ومرضت الجدّة نورة ، ـ لم تعد نورة الأمس بل تابت ورجعت إلى صوابها وعملت جهدها للتكفير عما كان منها بالماضي ـ وسافرت إلى الحج وعندما رجعت إزداد مرضها حِدّة مع كثرة الإعياء ؛ فسقطت عليلة في فراش الدنيا لتنتقل إلى فراش الآخرة ، وآنت ساعة الموت وقُبضت روحها إلى بارئها إن شاء عذّبها وإن شاء غفر لها ، وتركت ميراثا عظيما بين أيدي أولادها وأحفادها ، وبدأت قصة الصّراع على الميراث ، الكلّ يريد أخذ أكثر من أخيه ، وتشاجر الأخوان وتقاطعا وصار كل ّواحد يسير في سبيل معاكس تماما لأخيه ، بل وصارت قصة زواج بثينة وأسامة شبه مستحيلة ، طُرحت المسألة مرّات ومرّات لكنّها رُفضت رفضا تاما من قبل الطّرفين . وضاع كل شيئ في وادي الصّراع والكآبة والكراهية ، وقرّرت أم بثينة تزويجها لجارهم الثريّ بالرغم منها ، وتمّ العرس بأقصى سرعة لكي لا تتم المعارضة من أي أحد . أمّا أسامة فقد غادر تلك البلاد دون أن يُعثر له على أثر أو خبر .
وهكذا تحكم اليد القوية على المساكين وتُجبرهم على التخلي عمّا يحبون فيضيع كلّ ماقرر له دون أن يجرؤا على الرفض أو حتى إبداء رأيهم في ذلك الأمر .